
تقارير | بقش
يسعى البنك المركزي السوري إلى إصدار عملة جديدة من الليرة السورية كنوع من استبدال العملة وليس ضخاً لأوراق نقدية حديثة إلى جانب الأوراق النقدية القديمة، وسط مساعي دمشق الاقتصادية لفرض التغييرات في ظل وجود صعوبات قائمة.
وفي آخر التصريحات التي اطلع عليها بقش، قال حاكم مصرف سوريا المركزي إن العملة الجديدة ستعطي الدولة أداة للسياسة النقدية في تبديل لمخزون من العملة السورية يبلغ ما بين 38 إلى 39 مليار قطعة نقدية تراكمت خلال 70 سنة وشابته مشكلات متعددة، مضيفاً أن “حذف الأصفار” من شأنه تبسيط المعاملات مما يريح المتعاملين في السوق.
ويرى حاكم المركزي عبدالقادر الحصرية أن ثمة اختلافاً بين حذف أصفار من العملة السورية وتجربة حذف الأصفار في إيران وفنزويلا، حيث قال إن بلاده لديها سياسات جديدة تنفذها سلطات جديدة، في حين تستمر السياسات والسلطات ذاتها في فنزويلا وإيران.
ووفق متابعات بقش، من المقرر أن يُحذف صفران، فالـ10 آلاف ليرة قديمة ستكون قيمتها في العملة الجديدة 100 ليرة والـ100 ليرة قديمة ستكون قيمتها ليرة واحدة. وسيتضمن الإصدار الجديد 6 فئات نقدية، بعيداً عن الرموز المعقدة وفقاً للحصرية، في خطوة وصفها بأنها تعكس “هوية نقدية عصرية تعبّر عن السيادة الوطنية”.
وعن مراحل إصدار العملة الجديدة، ستكون أولاً إصدارها، ثم التعايش بين العملتين القديمة والجديدة، ثم استبدال العملة القديمة نهائياً من خلال البنك المركزي حصراً، وهي المرحلة المرجح أن تستمر لسنوات.
أزمة نقدية حادة واختراق للنظام المصرفي
تأتي هذه المساعي المرتبطة بإصدار جديد للعملة بعد أن فقدت الليرة السورية أكثر من 99% من قيمتها مقابل الدولار منذ عام 2011، وسط ارتفاع الأسعار بشكل مستمر والذي يؤدي إلى تآكل قدرات المواطنين على شراء السلع والخدمات.
وهناك تَداول نقدي كبير خارج النظام المصرفي الرسمي، مما يضعف قدرة الحكومة على مراقبة السيولة والنظام المالي. وحسب اطلاع بقش على التقارير، فإنه يتم تداول قرابة 40 تريليون ليرة سورية خارج النظام المالي الرسمي، أي ما يعادل 3.6 ملايين دولار وفقاً لسعر صرف 11,000 ليرة للدولار.
وذلك يفسر محاولة طباعة أوراق نقدية جديدة، إذ تحاول السلطة النقدية تحسين رقابة الحكومة على النقد المتداول، لكن يمكن حتى إعادة أموال عبر قنوات غير رسمية، ما يصعّب تتبع التدفقات النقدية.
وقد تدفع عملية استبدال العملة الأموالَ المهرّبة أو المدخرة في الخارج (خصوصاً في لبنان والعراق ودبي) إلى العودة للاستبدال، ما قد يزيد السيولة في السوق وكذلك في الجهاز المصرفي، وهذا يؤدي لرفع معدل التضخم والمضاربة على الدولار، وبالتالي حدوث تدهور جديد لليرة السورية، وفقاً للخبير الاقتصادي والمصرفي السوري إبراهيم قوشجي. والخطر الأكبر هو إعادة تهريب هذه الأموال الجديدة أو المستبدلة إذا لم تُحكم الرقابة المصرفية على الحوالات والحدود.
والإعلان عن إصدار نقد جديد وحذف الأصفار، في بلدٍ لا يزال يواجه الكثير من التحديات المالية، دفع التجار والصناعيين السوريين إلى الإسراع في التخلص من السيولة النقدية، نتيجة عدم اليقين بمستقبل العملة السورية. وزاد نزيف الليرة بسبب حالة الجمود التي تعاني من الأسواق السورية حالياً، إضافةً إلى استنزاف الليرة بحملات التبرع التي تدعمها الحكومة السورية في المحافظات.
لذلك يتوقع خبراء اقتصاديون سوريون أن تشهد الليرة خسائر أكبر في قيمتها على المدى القريب. فالليرة، وإن كانت استعادت بعض عافيتها في الفترة التي تلت سقوط النظام، كان ملحوظاً -وفقاً للتحليلات التي تتبَّعها بقش- أن قيمتها ستعاود التراجع، بعد أن انتهت المضاربات التي أوصلت قيمة الليرة إلى ما دون حاجز 10 آلاف ليرة مقابل الدولار.
وتُعد تكلفة إعادة الإعمار ضخمة وتحتاج موارد كبيرة، بشكل يرهق إمكانيات الدولة المحدودة، وهو ما يفسر مساعي جذب استثمارات أجنبية جديدة، خصوصاً من الخليج، وتقوية علاقات بنوك مراسلة دولية، خاصة بعد تحسن في العلاقات مع الدول الخليجية.
رفع قانون قيصر
التصريحات المتعلقة بإصدار العملة الجديد جاءت متزامنة مع رفع العقوبات الأمريكية المفروضة بموجب قانون قيصر، إذ أقر مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً إزالة أو تعليق أجزاء كبيرة من تطبيق قانون قيصر، وأصدرت إدارات تنفيذية تراخيص وتعديلات تسمح بإعادة فتح الباب أمام استثمارات وتجارية مع مؤسسات سوريا محددة بشرط استيفاء متطلبات امتثال.
وهذا التحول يفتح نافذة لإعادة إدماج سوريا في الاقتصاد الإقليمي والدولي، إلا أنه يطرح مخاطر سياسية وإنسانية وقانونية إذا لم تُصاحب عملية الرفع ضمانات ومساءلة ومخططات إعادة إعمار شفافة.
وقد يؤدي رفع قانون قيصر إلى تدفق استثماري بطيء ومحدود، فرفع القيود يتيح دخول بنوك وشركات أجنبية، خصوصاً في قطاعات الطاقة والإنشاءات، لكن مخاطر الامتثال والسمعة ستحد من تدفق رؤوس المال الكبيرة على المدى القصير.
كما يؤدي إلى تحسن تدريجي في الوصول إلى رساميل واستيراد قطع غيار حيوية، ما قد يقيد التضخم ويخفف أزمة الخدمات.
ويُنظر إلى رفع عقوبات قانون قيصر بأنه جاء على خلفية تقديم الإدارة السورية الجديدة تنازلات للحصول على رفع العقوبات، وأي تنازل سيعتمد على توازن القوى الداخلي والإقليمي والضغوط الدولية، وفي كثير من الحالات ستكون سوريا حريصة على تقديم تنازلات شكلية أكثر من تغييرات جوهرية وفق تحليلات اطلع عليها بقش.
ومن بين التغييرات السماح بدخول مراقبين دوليين، وتقديم التزامات أمنية ضد الجماعات المتطرفة. والتنازلات الجوهرية المتعلقة بالمساءلة الحقيقية عن جرائم الحرب أو تغيير نظام السلطة تبدو بعيدة المدى، ولذلك فإن سوء التنازلات يكمن في احتمال أن تكون رمزية وتُستخدم لشرعنة استثمارات وإعادة إعمار دون معالجة جذور الانتهاكات.
وعلى المستوى الاقتصادي، قد تحدث تغيرات في القطاعات المدنية الأساسية (استيراد سلع وإصلاح بنى تحتية أساسية) على مدى 12 إلى 36 شهراً، مع عودة بطيئة للمستثمرين الإقليميين، لكن التعافي الحقيقي يتطلب سياسات نقدية ومالية مستقرة ومشروعات تمويلية دولية منضبطة.
ويفتح قرار إلغاء عقوبات قانون قيصر فرصاً للحد من المعاناة الاقتصادية وإطلاق مشاريع إعادة إعمار، لكنه يحمل في طيّاته مخاطر إفلات من المساءلة وتقوية قواعد السلطة إذا لم تُشترط هذه الخطوات بمطالب حقوقية وسياسية واضحة وقابلة للتحقق.
شروط الإصلاح الاقتصادي
الإصلاحات الجارية في سوريا من حيث إعادة العملة (حذف الأصفار الجدلي وطباعة الأوراق الجديدة وإزالة الرموز السياسية من الأوراق النقدية أيضاً) تهدف بشكل معلن إلى تحقيق استقرار نقدي واستعادة ثقة المواطنين وتسهيل العمليات المالية اليومية.
لكن نجاح هذه المساعي يرتبط بعدة شروط أبرزها تحفيز الاستثمارات، ورفع العقوبات إلى حد يسمح للتجارة الدولية والدخول في النظام المالي العالمي، وتحسين البُنى التحتية المالية والمصرفية، بجانب القدرة على التواصل الجيد مع الجمهور لتفادي الالتباس.
وإذا ما نجحت هذه الإجراءات بشكل منسق، فقد تشهد سوريا تحسناً بطيئاً في النمو، إلا أن خبراء الاقتصاد والأمم المتحدة يرون أن الطريق لا يزال طويلاً جداً ويحتاج إلى عقود كاملة للتعافي الاقتصادي.